فصل: مسألة نادى رجلا باسمه فقال لبيك اللهم لبيك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الرحمن على العرش استوى كيف كان استواؤه:

قال سحنون: وأخبرني بعض أصحاب مالك، أنه كان قاعدا عند مالك، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله: مسألة، فسكت عنه، ثم قال له مسألة، فسكت عنه، ثم عاد عليه، فرفع إليه مالك رأسه كالمجيب له، فقال له السائل: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف كان استواؤه؟ قال: فطأطأ مالك رأسه ساعة ثم رفعه، فقال: سألت عن غير مجهول، وتكلمت في غير معقول، ولا أراك إلا امرأ سوء، أخرجوه.
قال محمد بن رشد: قد روي عن مالك أنه أجاب هذا بأن قال: استواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، وأراك صاحب بدعة، وأمر بإخراجه، وهذه الرواية تبين معنى قوله: سألت عن غير مجهول، وتكلمت في غير معقول؛ لأن التكييف هو الذي لا يعقل، إذ لا يصح في صفات الباري عز وجل لما يوجبه من التشبيه بخلقه تعالى عن ذلك، وأما الاستواء فهو معلوم غير مجهول كما قال؛ لأن الله وصف به نفسه فقال في محكم كتابه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6] وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] فوجب الإيمان بذلك، وأن يوصف بما وصف به نفسه من ذلك، ويعتقد أنها صفة من صفات ذاته، وهي العلو؛ لأن معنى قوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] على العرش علا، كما يقال: استوى فلان على العرش، علا عليه، واستوت الشمس في كبد السماء، علت، ولما كان العرش أشرف المخلوقات وأعلاها وأرفعها مرتبة ومكانا، أعلم الله تعالى عباده بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] أي: علا، فإنه أعلى منه، وإذا كان أعلى منه فهو أعلى من كل شيء، إذ كل شيء من المخلوقات دون العرش في الشرف والعلو والرفعة، فالمعنى في وصف الله عز وجل نفسه بأنه استوى على العرش، أنه أعلى منه ومن كل مخلوق، لا أنه استوى عليه بمعنى الجلوس عليه والتحيز فيه والممارسة؛ لأنه مستحيل في صفات الله تعالى؛ لأنه من التكييف الذي هو من صفات المخلوق، ولذلك قال فيه مالك في الرواية: إنه غير معقول، ولا أنه استوى عليه بمعنى أنه استولى عليه لوجهين، أحدهما: أن الاستيلاء إنما هو بعد المدافعة والمقالبة، والرب تبارك وتعالى منزه عن ذلك، والوجه الثاني: أن الاستيلاء هو القهر والقدرة، والله تعالى لم يزل قادرا قاهرا عزيزا مقتدرا، قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، ولا يمتنع أن يكون استواء الله على عرشه من صفات ذاته، وإن لم يصح وصفه بها إلا بعد وجود العرش، كما لا يوصف بأنه غير لما غايره إلا بعد وجود سواه، وقد قيل: إن استواء الله تعالى على عرشه من صفات فعله، بمعنى أنه فعل في العرش فعلا سمى نفسه به مستويا على العرش، أو بمعنى أنه قصد إلى إيجاده أو إحداثه؛ لأن الاستواء يكون بمعنى الإيجاد والإحداث، كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] قصد إلى إيجادها وإحداثها.
وحمل الاستواء فيما وصف الله به نفسه من استوائه على عرشه على أنها صفة ذات من العلو والارتفاع أولى ما قيل في ذلك، والله أعلم.

.مسألة من جعل دينه غرضا للخصومات:

ومن كتاب مرض وله أم ولد:
قال ابن القاسم: قال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر للتنقل، قال مالك: أراه يعني أصحاب الأهواء.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لأن من خاصم أهل الأهواء والبدع وجادلهم، يوشك أن يسمع من شبههم ما لا يظهر له إبطاله فينتقل عن اعتقاده إلى ذلك، فلا ينبغي للرجل أن يمكن زائغا من أذنه، ولا ينعمه عينا بالمجادلة في بدعته، وبالله التوفيق.

.مسألة اصطحبا في سفر فقتل أحدهما صاحبه:

وقال مالك في رجلين اصطحبا في سفر فقتل أحدهما صاحبه فقال: إن كان قتله على وجه الحرابة أو أخذ متاعه فإني أرى أن يقتل، وإن كان قتله على وجه العداوة أو نائرة، فذلك إلى أوليائه، إن شاءوا قتلوه، وإن شاءوا عفوا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن القتل على أربعة أوجه خطأ وعمد وشبه عمد وغيلة، فالخطأ فيه الدية على العاقلة، والعمد فيه القصاص للأولياء إلا أن يعفوا على الدية أو بغير دية، وهو أن يقتل قاصدا للقتل على وجه النائرة والعداوة، وشبه العمد قيل فيه الدية ولا قصاص، وقيل فيه القصاص، وهو أن يعمد للضرب فيقتل به غير قاصد للقتل، والقولان لمالك، والمشهور عنه أن فيه القصاص، وقتل الغيلة وهو أن يقتله على ماله، فهذا يجب عليه القتل حدا من حدود الله عز وجل، لا عفو للأولياء فيه، قياسا على المحارب في قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ} [المائدة: 33] الآية.

.مسألة نادى رجلا باسمه فقال لبيك اللهم لبيك:

ومن كتاب صلى نهارا:
وسئل مالك عن رجل نادى رجلا باسمه فقال: لبيك اللهم لبيك أعليه شيء؟ قال مالك: إن كان جاهلا أو على وجه السفه فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: أما الجاهل فبين أنه لا شيء عليه؛ لأنه لا يدري ما معنى الكلام، وإنما هو شيء حفظه من تلبية الملبين فجرى على لسانه، وأما الذي قاله على وجه السفه فلم ير عليه مالك في ذلك شيئا، فمعناه الذي يقوله على وجه الاستخفاف بالداعي له لإرادته بإجابته إياه بهذا الكلام ضد هذا الكلام الذي لا يليق به معناه، فعرض له بذلك أنه لا شرف له ولا حق ولا كرامة يستوجب بها الإجابة، وأما لو قال ذلك على وجه السفه استخفافا بالتلبية في الحج لوجب عليه الأدب المؤلم، وهو محمول على أنه قاله على وجه الاستخفاف بالداعي، حتى يعلم أنه أراد بذلك الاستخفاف بالتلبية؛ لأن هذا معلوم في كلام الناس أن يراد بالكلام ضد موجبه، فمعناه فيقال لابن الأسود ابن الأبيض، ومنه تسمية الأعمى أبو بصير، والمهلكة الفائزة، ومثل هذا كثير، ولا يحمل على أحد أنه قال لأحد مجدا معتقدا أنه إلهه إلا أن يقر بذلك على نفسه وهو عاقل غير مجنون ولا سكران، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة توعد قرة بن هبيرة لعمرو بن العاص بعد وفاة النبي:

ومن كتاب طلق بن حبيب:
قال مالك: بلغني أن رجلا قال لعمرو بن العاص- وكان عمرو عاملا على البحرين في زمان النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وأنه قال له: إن النبي قد توفي فالحق ببلدك، فالحق ببلدك، وإلا فعلنا وفعلنا- يتواعده- فقال له عمرو بن العاص: لو كنت في حفش أمك لدخلنا عليك فيه.
قال محمد بن رشد: القائل لعمرو قرة بن هبيرة بن سلمة، كان ارتد وأتي به موثقا إلى أبي بكر مع عيينة، وشهد عليه بذلك عمرو بن العاص، فأراد بقوله هذا: أنه لا يفلته ولا ينجو منه حتى يقيم حد الله عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة حراسة القليل من المسلمين:

ومن كتاب ليرفعن أمرا:
قال: وسئل مالك عن طريق بخراسان وبه قوم من أهل الكفر قريبا منهم يخرجون إلى تلك الطريق فيقطعون على المضعفين من المسلمين مثل الرجل والقافلة الضعيفة، وإن كانت جماعة لهم قوة لم يقدموا عليهم، وهم ليست لهم من القوة أن يظهروا على ما حاز المسلمون، إلا أنهم يقطعون على هؤلاء، أترى هذا مرابطا؟ قال: نعم، إذا كانوا يقطعون، فإنما مثل هؤلاء مثل اللصوص، فأرى أن يحرس ذلك الموضع، وكأنه رآه مرابطا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه يجب حراسة القليل من المسلمين كما يجب حراسة الكثير، وقد قال تعالى: {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا} [المائدة: 32] الآية. فملازمة حراسة هذه الطريق رباط، والأجر في الرباط على قدر الخوف على أهل ذلك الموضع، وقد قال عبد الله بن عمر: فرض الجهاد لسفك دماء المشركين، والرباط لحقن دماء المسلمين، فكان يقول: حقن دماء المسلمين أحب إلي من سفك دماء المشركين، يريد والله أعلم: أن الرباط أحب إليه من الجهاد على غير إصابة السنة، فقد قيل: إنه إنما قال ذلك حين دخل الجهاد ما دخل؛ لأن الرباط إنما هو شعبة من شعب الجهاد، والأجر فيه على قدر الخوف في ذلك الموضع، وبالله التوفيق.

.مسألة يكونون على السفر فيلقاهم اللصوص:

وقال مالك في القوم يكونون على السفر فيلقاهم اللصوص، قال: يناشدونهم بالله، فإن أبوا فيقاتلونهم، وسئل عنها سحنون فقال:
أرى أن يقاتلوا ولا يدعوا؛ لأن الدعوة لا تزيد إلا شدة واستئسادا وجرأة، فلا يرى أن يدعوا، ويقاتلوا بلا دعوة.
قال محمد بن رشد: تكلم سحنون على ما يعرف من غالب أمرهم، وتكلم مالك على قدر ما يرجى في النادر منهم، وذلك يرجع إلى أنه إن رجي إن دعوا أو نشدوا أن يكفوا استحب دعاؤهم وترك معاجلتهم بالقتال، وإن تيقن ذلك وجب أن يدعوا، وإن خيف إن دعوا أن يستأسدوا ويعالجوا المسلمين، وجب أن لا يدعوا كما قال سحنون، وأما دعاء أهل الحرب قبل القتال فقد مضى القول فيه مستوفى في أول نوازل أصبغ من كتاب الجهاد، وبالله التوفيق.

.مسألة المراد بالمحارب وحكمه:

ومن كتاب سن في الطلاق:
قال مالك: أما المحارب فرجل حمل على قوم بالسلاح على غير نائرة، ولا دخل ولا عداوة، أو قطع طريقا، أو أخاف المسلمين، فهذا إذا أخذ قتل ولا ينتظر به، والإمام يلي قتله، ولا يجوز فيه عفو، وأما المغتال فرجل عرض لرجل أو صبي فخدعه حتى أدخله بيتا فقتله، ثم أخذ متاعه ومالا، إن كان معه المال، إنما يقتله على ذلك، فهذه الغيلة، وهو يعد بمنزلة المحارب، وأما ذو النائرة والعداوة فرجل دخل عليه رجل في حريمه مكابرا له حتى جرحه أو قتله أو ضربه، ثم خرج مكانه ولم ينتهب متاعا، إنما كان ضربه إياه لنائرة كانت بينهما، فهذه النائرة لا يشك فيها أحد، فإذا أخذ هذا فعليه القصاص، والعفو يجوز فيه من أولياء المقتول، فإن عفوا جلد مائة وحبس عاما.
قال محمد بن رشد: هذا تقسيم صحيح في قتل العمد على المشهور في المذهب من أن شبه العمد باطل؛ لأن القتل عمدا ينقسم على ثلاثة أقسام عند من لا يرى القود في شبه العمد، وقد مضى ذلك في رسم مرض وله أم ولد.
وقوله: حتى جرحه أو ضربه، يريد فمات في الحين من ضربه لمن جرحه، وأما إن حيي بعد ذلك حياة بينة فلا يقسم إلا بقسامة أولياء المقتول، وقد مضى بيان ذلك في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب الديات وفي غير ما موضع منه، وبالله التوفيق.

.مسألة القتل لا يجب إلا بكفر بعد إيمان:

من سماع أشهب وابن نافع من مالك من مسائل القراض قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عن جارية أطمعت إنسانا في بلع شيئا أذهبت عقله فمرة يفيق ومرة يذهب عقله فيصيح ويرعد، وقد اعترفت بذلك على نفسها وزعمت أنها لا تقدر على حل ذلك عنه؛ لأن ذلك دخل في بطنه، أفتراها بذلك ساحرة تقتل؟ فقال: أراها قد أتت عظيما، فأرى أن لا تترك وأن يرجع أمرها إلى السلطان، وإني لأراها محقونة بكل شر، قيل لمالك: أفترى عليها القتل؟ فقال: لا أدري ما القتل، ولكني أراها قد أتت عظيما، وأنها محقونة بكل شر، فأرى أن يرجع أمرها إلى السلطان، أفعلت هذا الفعل بغيره من الناس قبله؟ فقال السائل: نعم، قال: أرى أن يرفع أمرها إلى السلطان، وأراها محقونة بكل شر، فأما القتل فلا أدري.
قال محمد بن رشد: توقف مالك عن إيجاب القتل على من فعل هذا الفعل بأحد، بقوله: فأما القتل فلا أدري صحيح؛ لأن القتل لا يجب إلا بكفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق على ما قاله في الحديث، أو فساد في الأرض على ما نصه الله في محكم التنزيل، وإنما توقف مالك في هذه المسألة لما خشي أن يكون هذا الفعل من السحر الذي يحكم على فاعله بالكفر، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] وليس هذا من السحر بسبيل، إنما السحر ما يفعله الساحر في غير المسحور فيتأذى به المسحور بما يصيبه به من ذهاب عقله، حتى يخيل إليه بأنه يفعل الشيء ولا يفعله، ويتوهم رؤية المستحيلات من الأمور، وإنما هذا من ناحية ما يسقاه الرجل أو يطعم إياه من الأشياء المسمومة، التي تأتي على نفسه أو يصيبه بلاء في جسمه أو اختلال في عقله، فإن أتت على النفس وجب على الفاعل في ذلك القتل، فإن لم تأت على النفس لم يجب عليه في ذلك إلا الضرب والسجن، إلا أن يكون أراد بما سقاه من ذلك ذهاب عقله لأخذ ماله، فيكون ذلك من الغيلة الموجبة للقتل، فيحتمل أن يكون ظن مالك هذا بهذه المرأة ولم يتحققه، ولذلك توقف في قتلها ولم يوجبه.

.مسألة أخذ المال على سبيل المحاربة:

وسئل عن رجلين لقيا رجلا نحو عين القسري وفي ثوبه رطب، فسألاه من الرطب فأبى، فأخذاه وكتفاه ونزعا منه الرطب وثوبه، ثم وجد فقال: سألني الأمير عن ذلك، قيل له فما قلت له فيهما؟ فقال: إنه ليقول قاتل حارب، قيل أفترى ذلك؟ قال: إنهما ليشبهان ذلك، وما أرى من أمر بين في القتل والصلب والقطع، قيل لمالك: إن رجلين بالأندلس أخذا ومعهما دابتان فسئلا عنهما، فقالا: أما إحداهما فوجدناها ترعى في فحص فلان فأخذناها، وأما هذه الأخرى فوجدنا عليها رجلا فأنزلناه عنها وأخذناها منه، فقال: هذه مثل الأخرى الذي نزعا منه الثوب والرطب.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير مالك في هذا القتل والصلب والقطع وذهب إلى أن يؤخذ فيه بأيسر عقوبات المحارب، وهو الضرب والسجن؛ لأنه لم يخرج محاربا، ولكنه أخذ مالا على سبيل الحرابة فأشبه المحارب، فهو عند مالك في الحكم بمنزلة الذي يخرج محاربا فيؤخذ في أول خروجه قبل أن يقتل أو يأخذ مالا أو يخيف سبيلا، ووجه الشبه بينهما أن هذا تحققت عليه الحرابة بخروجه محاربا ولم يكن منه شيء من معناها ولا أخذ مال ولا إخافة سبيل، والأول وجد منه معنى الحرابة، وهو أخذ المال على سبيل المحاربة، وليس بما فعل اسم المحارب إذا لم يقصد الحرابة ولا خرج إليها، فسقط عنه بذلك ما يجب على المحارب إذا أخاف السبيل وأخذ المال، فهذا وجه القول في هذه المسألة، والله أعلم.

.مسألة حدود الله يجب البدار إلى إقامتها:

قال لنا مالك: أرسل الأمير فسألني عن رجل صحب قوما، فلما حضر غداؤهم جاءهم بسويق معه فصبه مع سويقهم فأكلوا منه وهم أربعة ولم يأكل هو، فلم يلبث رجلان من القوم أن ماتا ولبط بصاحبهما فلم يدر أحيين هما أم ميتين، حتى مثلهما من الغد وأخذ منهم خمسة دنانير، ثم أخذ فسئل عن ذلك فقال: قد فعلت، وإنما هو سويق أعطانيه إنسان، فأخبر أنه يسكر من أكله فأطعمتهم إياه ليسكروا، ولم أرد قتلهم، وإنما أردت أن أخدرهم فآخذ ما معهم، فلما طعموه فمات هذان ولبط بهذين حللت من أكمامهم خمسة دنانير فذهبت بها، ولم أظن أن ذلك يقتل، ولم يكن ذلك الذي أردت، فاعترف على نفسه بهذا بغير ضرب ولا امتحان، فما ترى؟ فقلت لمالك: فهل رأيت فيه يا أبا عبد الله؟ فقال لي: رأيت عليه القتل، فقلت له: أرأيت عليه القتل؟ قال: نعم، رأيت عليه القتل، فقلت له: أرأيت ذلك عليه للحرابة؟ فقال لي: نعم للحرابة، ولما أراد من قتلهم، أرأيت الذي سمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه في الشاة فمات بعضهم، ألم يكن ذلك على هذه القتل؟ فقلت له: إن تلك اليهودية التي سمت لرسول الله أرادت القتل، وهذا لم يرد القتل، فقال لي: ومن يقبل ذلك منه أنه لم يرد القتل؟ فلا يقبل منه ولا يغني ذلك عنه، قد سحرت تلك الجارية سيدتها فأمرت بها فقتلت، وهذا لم يعتذر بعذر فيقول أخطأت وإنه لعظيم أن يفعل هذا بابن السبيل ثم يسلم فاعله هذا مع أخذه أموالهم وأنهما ماتا مكانهما، إني قد كنت قلت للرسول: قل للأمير لا يعجل به، ثم نظرت في ذلك بعد ذهابه فأرسلت إليه فجاءني فقلت له قل للأمير يقتله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة، وقد استدل مالك لما ذهب إليه من إيجاب القتل عليه بما ذكر مما لا مزيد عليه، وأما قوله: قد سحرت تلك الجارية سيدتها فأمرت بها فقتلت بها، فلم يقله على سبيل الحجة لإيجابه القتل على الذي أطعم لأصحابه السويق المسموم فمات بعضهم وأخذ منهم الدنانير واعترف بذلك على نفسه، إذ ليس منه بسبيل، وإنما ذكره على سبيل الاغتباط بالفتوى بقتل من وجب عليه القتل؛ لأن حدود الله يجب البدار إلى إقامتها وترك التأني في ذلك، فقال: أمرت بقتل هذا بما وجب عليه من القتل بالحرابة، كما أمرت بقتل تلك بما وجب عليها من القتل بالسحر، فقد كان إذا سئل في شيء من الحدود أسرع الجواب وأظهر السرور بإقامة الحدود، وقد بلغني أنه يقال:
لحد يقام بأرض خير له من مطر أربعين صباحا، ولو قال هذا الرجل: ما أردت قتلهم ولا أخذ أموالهم، وإنما هو سويق. لا شيء فيه إلا أنه لما ماتوا أخذت أموالهم لم يكن عليه شيء غير رد المال، قاله في كتاب ابن المواز، وبالله التوفيق.

.مسألة يرتد عن الإسلام فيعرض عليه الإسلام فيسلم:

ومن كتاب الأقضية الثاني:
وسئل مالك عن المسلم يرتد عن الإسلام فيعرض عليه الإسلام فيسلم، أترى عليه حدا فيما صنع من ارتداده عن الإسلام إلى الكفر؟ فقال: لا أرى عليه حدا إن رجع إلى الإسلام، إنما كان عليه القتل لو ثبت على النصرانية، فأما إذ رجع إلى الإسلام فلا شيء عليه، واحتج في ذلك بآية من كتاب الله، قال سحنون: وكذا لو رجع عن شهادته قبل أن يقضى بها، وإنه يقال: ولا عقوبة عليه وإن كان غير مأمون؛ لأنه لو عوقب الناس بالرجوع عن شهادتهم لم يرجع أحد عن شهادة شهد بها على باطل إذا تاب خوفا من العقوبة قياسا على المرتد.
قال محمد بن رشد: أما المرتد فإنما لم يجب عليه حد فيما صنع من ارتداده إذا رجع إلى الإسلام لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وهذه الآية التي ذكر أنه احتج بها من كتاب الله، والله أعلم، وأما قول سحنون في الراجع عن شهادة شهد بها قبل الحكم وهو غير مأمون: إنه لا يعاقب، فهو خلاف مذهب ابن القاسم؛ لأنه قال في المدونة: ولو ردت لكان لذلك أهلا، واعتلال سحنون لإسقاط العقوبة عنه بما ذكره من أن الشهود لو عوقبوا بالرجوع عن شهادتهم لم يرجع أحد عن شهادة شهد بها على باطل بين، وأما قياسه ذلك على المرتدين فليس بصحيح؛ لأن المرتد إنما سقطت عنه العقوبة بالآية المذكورة، لا من أجل أن معاقبته لو عوقب لم يجترئ أحد على الرجوع إلى الإسلام خوفا من العقوبة؛ لأن القتل يجب عليه بالتمادي على الكفر، فهو أشد من العقوبة التي يخشاها إن رجع إلى الإسلام، فلا تشتبه المسألتان، ولا يصلح قياس إحداهما على الأخرى.

.مسألة المرتد إلى الإسلام هل له حد يترك إليه:

وسئل عن المرتد إلى الإسلام هل له حد يترك إليه؟ فقال: إنه ليقال ثلاثة أيام، وأرى ذلك حسنا، وإنه ليعجبني، ولا يأتي من الاستظهار الأخير، وسئل عن قول عمر بن الخطاب: أفلا حبستموه ثلاثا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، هل ترى أن يتربص بالذي يكفر بعد إسلامه كذلك أو يستتاب ساعتئذ؟ قال: ما أرى بهذا بأسا، وليس على هذا أمر جماعة الناس.
قال محمد بن رشد: قوله: وليس على هذا أمر جماعة الناس، يريد في الإيقاف ثلاثا، قاله ابن أبي زيد في النوادر متصلا بقوله، هذا الظاهر من الرواية، ويحتمل أن يريد أنه ليس أمر جماعة الناس على استتابة المرتد، إذ من أهل العلم من يرى أنه يقتل ولا يستتاب على ظاهر قول النبي عليه السلام: «من بدل دينه فاقتلوه» وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة في رسم الصلاة من سماع يحيى بعد هذا، واحتج بما روي من أن أبا موسى الأشعري وقف على معاذ بن جبل وأمامه مسلم تهود، فقال له معاذ: انزل يا أبا موسى، فقال: لا والله لا نزلت حتى يقتل هذا، فقال: فلو رأى عليه استتابة ما قاله، وقد قال بعض الرواة عن أبي موسى في هذا الحديث: إنه قد كان استتابه قبل ذلك أياما، وهو الصحيح إن شاء الله؛ لأنه لم يحفظ عن الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اختلاف في استتابة المرتد، وإنما اختلفوا في حدها، فمنهم من قال: يستتاب مرة واحدة، ومنهم من قال: شهرا، ومنهم من قال: ثلاثة أيام، وهو الذي عليه أكثر أهل العلم، والأصل في ذلك قَوْله تَعَالَى: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يحل لأحد أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام».. الحديث، فبان بهذا أن الثلاثة أيام في حيز اليسير، فمن ذلك أخذ استظهار الحائض بثلاثة أيام إذا استمر بها الدم، ومنه أخذ الحاكم التلوم في الإعذار ثلاثة أيام، ومنه أخذ تأخير الشفيع بالنقد ثلاثة أيام، ومنه أخذ جواز تأخير رأس مال السلم اليومين والثلاثة، وما أشبه ذلك في غير موضع من العلم كثير، وقد مضى في نوازل سحنون من كتاب الديات القول فيمن قتل مرتدا عمدا قبل أن يستتاب وتوجيه الاختلاف في ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة المراد بالقدرية وحكمهم:

ومن كتاب الأقضية الثالث:
وسئل مالك عن القدرية فقال: قوم سوء فلا تجالسوهم، قيل: ولا نصلي وراءهم؟ قال: نعم، وقال سحنون: كان ابن غانم يقول في كراهية مجالسة أهل الأهواء: أرأيت لو أن أحدكم قعد إلى سارق في كمه بضاعة أما كان يختزنها منه خوفا أن يغتاله فيها فلا يجد بدا أن يقول نعم، قال: فدينكم أولى بأن تحرزوه وتتحفظوا به، وسئل عن الرجل يكون بينه وبين الرجل من أهل القدر في ذلك منازعة حتى يبقى يأتيه القدري فيأخذ بيده ونتصل إليه، فقال إن كان جاء نازعا تاركا لذلك فليقبل منه ذلك وليكلمه، وإن لم يكن جاء لذلك فإني أراه في سعة من ترك كلامه، قيل له: إنه قد يتشبث ويتعلق ويأخذ بيدي ويسألني الكلام؟ فقال: لا أرى بأسا أن يترك كلامه.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه الرواية في أهل القدر إنهم قوم سوء فلا يجالسوا ولا يصلى وراءهم، نص منه على أنهم لا يكفروا باعتقادهم خلاف ظاهر قوله في أول رسم من سماع ابن القاسم آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] الآية، قال: فأي كلام أبين من هذا، قال ابن القاسم: ورأيته تأولها على أهل الأهواء، فالقدرية عند عامة العلماء كفار؛ لأنهم نسبوا إلى الله تعالى العجز والجهل في قولهم: إن الله لم يقدر المعاصي ولا الشر، وإن ذلك جار في خلقه وسلطانه بغير قدرته ولا إرادته، فنفوا القدرة والإرادة في ذلك عن الله تعالى، ونسبوها لأنفسهم، حتى قال بعض طواغيتهم: إنه لو كان طفل على حاجز بين الجنة والنار لكان الله تعالى موصوفا بالقدرة على طرحه إلى الجنة، وإبليس موصوفا بالقدرة على طرحه في النار، وإن الله لا يوصف بالقدرة على ذلك، وزعموا أن خلاف هذا كفر وشرك، وعند بعضهم قوم سوء ضلال لأنهم خالفوا أهل السنة والجماعة في عقود الدين؛ لأن الله تعالى أضلهم وأغواهم ولم يرد هداهم وعمى بصائرهم عن الحق ولم يرد شرح صدورهم له، كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} [الأنعام: 125] الآية، وقد تواترت الآثار بإخراجهم عن الإسلام وإضافتهم إلى أصناف الكفر، من ذلك قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «القدرية مجوس هذه الأمة» «والقدرية نصارى هذه الأمة» وقوله: «صنفان من أمتي ليس لهم نصيب في الإسلام، المرجئة والقدرية،» وقوله: «لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة القدرية، لا تعودوهم إذا مرضوا، ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا» وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتقوا هذه القدرية، فإنها شعبة من النصرانية» ومن مثل هذا ونحوه كثير، وقد نهى مالك عن مجالستهم، وإن لم يرهم كفارا بما لقولهم على هذه الرواية لوجوه ثلاثة، أحدها أنهم إن لم يكونوا كفارا فهم زائغون ضلال يجب التبرؤ منهم وبغضهم في الله؛ لأن البغض في الله والحب فيه من الإيمان، وقد قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا} [المجادلة: 22] الآية، وهم ممن حاد الله ورسوله باعتقادهم الفاسد الذي خرجوا به عن الملة في قول كافة الأمة، والوجه الثاني: مخافة أن يعرض بنفسه سوء الظن بمجالستهم فيظن به أنه يميل إلى هواهم، والثالث: مخافة أن يستمع كلامهم فيدخل عليه شك في اعتقاده بشبههم، وكفى من التحرير عن ذلك المثل الصحيح الذي ضربه مالك في رواية ابن غانم عنه، ونهى عن الصلاة خلفهم على مقتضى هذه الرواية من أنهم كفار؛ لأنهم وإن لم يكونوا كفارا هم زائغون ضلال، وقد قال النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أئمتكم شفعاؤكم، فانظروا بمن تستشفعون» فإن صلى خلفهم على هذه الرواية أعاد في الوقت، وهو مذهب ابن القاسم، وقيل: لا إعادة عليه، وهو مذهب سحنون وكبار أهل مذهب مالك، وأما على القول بأنهم يكفرون بما لقولهم فيعيد من صلى خلفهم في الوقت وبعده، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وقد فرق في ذلك بين أن يكون هو الوالي الذي تؤدى إليه الطاعة أو غيره، وقد مضى هذا في أول رسم من سماع ابن القاسم، وقوله في الذي غايظه القدري في منازعته إياه ثم جاءه متنصلا إليه: إنه لا يكلمه حتى يعلم صحة متنصله مما قال وتوبته عنه، وأنه إنما يريد بكلامه معه التثبت في اعتقاد أهل السنة، وأما إن لم يعلم صحة ذلك فله سعة في ترك كلامه كما قال، مخافة أن يظهر له التنصل والتوبة وغرضه أن يسمعه شبهة رجاء أن يشككه في اعتقاده، فمن الحظ له أن لا ينعمه عينا بذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة يعذبون الناس في الدنيا:

وسئل مالك عن عذاب اللصوص بالرهزة بهذه الخنافس التي تحمل على بطونهم، فقال: لا يحل هذا، إنما هو السوط والسجن، وإن لم يجد في ظهره مضربا فالسجن، قيل: أرأيت إن لم يجد في ظهره مضربا أترى أن يسطح فيضربه في أليتيه؟ فقال: لا والله، لا أرى ذلك، إنما عليك ما عليك، وإنما هو الضرب في الظهر بالسوط أو السجن، أرأيت إن مات؟ قال: فقيل له: أرأيت إن مات أيضا بالسوط؟ قال: فإنما عليك ما عليك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه لا يصلح أن يعاقب أحد فيما يلزمه فيه العقوبة إلا بالجلد والسجن الذي جاء به القرآن، وأما تعذيب أحد بما سوى ذلك من العذاب فلا يحل ولا يجوز، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله ليعذب في الآخرة الذين يعذبون الناس في الدنيا».